لم تكن السياسة الدولية يوما تعبر عن العلاقة بين الجمعيات الخيرية والمنظمات غير الحكومية التطوعية، فهي يغيب عنها مبدأ التقديمات ويطبعها مبدأ الانتزاع بالقوة غالبا، ومن مقتضيات التنازع التنافس، والعنوان الأبرز لهذا التنافس هو التنافس لامتلاك المزيد من القوة وأسباب القوة، ويقع في صميم أسباب القوة وفي صميم التنافس الوصول إلى الموارد الطبيعية ولاسيما موارد الطاقة والموارد المائية، وهنا لا يخفى الترابط العضوي ما بين هذه الموارد وبين عوامل قوة الدولة من جهة، وبين هذه الموارد والمنظومة البيئية من جهة ثانية.
فموارد الطاقة هي عصب العملية الإنتاجية التي تعتبر بدورها الركن الأساس وحجر الزاوية في الاقتصادات الصناعية القوية، والوصول إلى موارد الطاقة كان ولا يزال يحتل مكانة مميزة في استراتيجيات القوى الكبرى لا سيما الصين والولايات المتحدة وروسيا، والوثائق الاستراتيجية التي تصدر عن هذه القوى يحتل عنوان الطاقة والوصول إلى مواردها حيزا أساسيا فيها، وقد فسرت بعض الحروب بانها اندلعت في سياق البحث عن الطاقة وتوفير ما بات يعرف فيما بعد بأمن الطاقة، وهو يتضمن ثلاثة عناصر: الأول تحقيق استمرارية تدفق النفط والوصول إلى مصادره، الثاني تنويع مصادره، والثالث توفير احتياطي ضخم من الطاقة إن أمكن نظرا لدوره في تعزيز الأمن القومي. وعطفا على ما تقدم فإن أي مسعى لعرقلة تحقيق أحد هذه الأهداف الثلاثة يصنف من ضمن تهديدات الأمن القومي التي قد تجر إلى الحروب والنزاعات.
أما على صعيد الموارد المائية فنحن أمام قضية شديدة الحساسية ومليئة بالتعقيدات وأكثر خطورة، فموارد الطاقة من نفط وغاز لديها العديد من البدائل الرديفة كالطاقة الهوائية والطاقة الشمسية التي تسمح بتقليص حجم استخدام النفط والغاز في تلبية الاحتياجات من الطاقة، وهي تعتبر من ضمن ما يسمى الوسائل الصديقة للبيئة كونها لا تترك اثاراً جانبية تضر بالبيئة، بخلاف الطاقة النووية التي تشكل بديلاً عن النفط والغاز لكنها تترك أثارا جسيمة لا يستهان بها على المنظومة البيئية، لكن الموارد المائية ليست كموارد الطاقة فالمياه شرط أساس ليس في قوة بل في وجود المجتمعات، والحياة في أي مجتمع ترتبط بتوفر الموارد المائية، وبالتالي فتلويثها او تجفيف مصادرها هو كمن يعمل على قتل المجتمعات أو تهجيرها قصرا وهو ما يقود بالمحصلة للنزاعات والحروب، والموارد المائية خاصة الأنهار لها خصوصية كونها تمر أحيانا بعدد من الدول وبالتالي فإن سياسات استخدام وتجميع المياه وتحديدا بناء السدود قد ينجم عنها بروز بؤر توتر، فسد النهضة التي تعمل أثيوبيا على بنائه على النيل مثلا تعتبره أثيوبيا حاجة لها من أجل تعزيز مواردها المائية وتوفير الطاقة الكهرومائية، في حين تجد مصر فيه تهديدا لأمنها المائي كونه يؤدي إلى تراجع منسوب توفر المياه في مجرى النيل، وهو ما ينتج عنه تراجع في المحاصيل الزراعية وبالمحصلة يهدد الأمن الغذائي المصري وهو جزء من الأمن القومي المصري.
بناء على ما تقدم تبرز المعضلة التالية: إن استخدام موارد الطاقة ولا سيما النفط والغاز والفحم يرتبط ارتباطاً مباشراً بعملية النمو الاقتصادي من جهة وينجم عن استخدامها العديد من التهديدات البيئية من جهة أخرى، لذلك كان الهدف من مؤتمر البيئة والتنمية أو مؤتمر قمة الأرض الذي عقد في ريو دي جانيرو-البرازيل في العام 1992 الوصول إلى صيغة تجمع ما بين النمو الاقتصادي وحماية البيئة وهو ما يعرف باسم تحقيق التنمية المستدامة.
ومنذ العام 1992 وحتى اليوم حدث تزايد ملفت في الاتفاقات البيئية العالمية والإقليمية والثنائية التي ترمي إلى تحقيق التنمية المستدامة وكان آخرها اتفاق باريس الذي عقد في كانون الأول من العام 2015 ودخل حيز التنفيذ بعد أقل من عام في تشرين الثاني من العام 2016، وكان الرئيس باراك أوباما رئيس الولايات المتحدة والرئيس شي جين بينغ رئيس جمهورية الصين الشعبية قد صدقا على الاتفاق في أيلول من العام نفسه، وقال الرئيس أوباما حينها إن هذه الاتفاقية يمكن اعتبارها اللحظة التي قررنا فيها أخيرا إنقاذ الكوكب ورسمت ملامح هذا القرن، لكن ما اعتبره الرئيس أوباما إنجازاً تاريخياً اعلن الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب عزمه التخلي عنه والتخلي عن خطة الطاقة النظيفة!!!نظراً لأنه يضع قيوداً على استخدام موارد الطاقة التي يعتبرها ترامب من ضمن القطاعات التي تشكل رافعة أساسية للاقتصاد الأميركي المتعثر في هذه الفترة، كما أن تطبيق المعايير البيئية كثيرا ما يترجم ارتفاعاً في كلفة الإنتاج وبالتالي انخفاض القدرة التنافسية، وهو ما يدفع القوى الكبرى إلى تجاهل القواعد البيئية في ظل المنافسة الشرسة الحاصلة فيما بينهم. وهنا يطرح سؤال جوهري ما الذي يضمن تقيد القوى الكبرى بالاتفاقيات البيئية إذا ما تعارضت مع أهدافهم الاقتصادية أو السياسية وغيرها؟
الجواب الواقعي والصريح ليس هناك أي ضامن لتقيد القوى الكبرى بهذه المعاهدات أو سواها خاصة إذا ما كانت تهدد ما تعتبره هذه القوى أهدافها الاستراتيجية، من هنا كان من الملفت أن العديد من الدول النامية بدأت العمل والاستعداد على صعيد إقليمي لمواجهة التحديات الناجمة عن التقلبات البيئية الحادة من ارتفاع بدرجات الحرارة أو حالات الجفاف والتصحر نتيجة تراجع نسبة المتساقطات أو تراجع منسوب مياه الأنهر كما وعلى المقلب الآخر الاستعداد لدرء خطر السيول والفيضانات ونحوها.
فعقب الدورة الثانية والعشرين لقمة الأمم المتحدة للمناخ التي عقدت في شهر تشرين الثاني من العام 2016 في مدينة مراكش- المغرب والتي أقرت خطة عمل لتنفيذ مقرارات اتفاق باريس، عقد الاتحاد العربي للشباب والبيئة التابع لجامعة الدول العربية في أواخر كانون الثاني 2016 منتدى عربيا افريقيا ضم ممثلين عن لبنان والجزائر والسودان والكويت ونيجيريا والسنغال وبالتأكيد مصر حيث كان المؤتمر في ضيافتها(القاهرة-الأقصر)، وهدف المؤتمر للتباحث بمخرجات قمة مراكش وبحث سبل درء مخاطر التقلبات البيئية الحادة سابقة الذكر، وقد شارك فيه مجموعة من الاكاديمين والخبراء والمنظمات العربية والافريقية المهتمة والمعنية بالشأن البيئي، وخرج المنتدى بتوصيات تصب في إطار وضع آليات تسهم بتكييف اقتصاديات هذه الدول مع التقلبات البيئية الحادة وكيفية حماية المدن منها، بغية المحافظة على البنية الاقتصادية والأمن الغذائي والقومي.
بالمحصلة يتضح من التجربة التراكمية في السياسة الدولية منذ المؤتمر الأول الذي تناول عنوان البيئة البشرية في استوكهولم من العام 1972 وحتى اليوم أي بعد أربعة واربعين عاما ما زالت المشاكل البيئة تتطور بوتيرة تبعث على القلق، ولا تزال القوى الصناعية الأساسية التي يتهمها البيئيون بأنها المسبب الرئيسي للتلوث تتهرب من العمل وفقا للمعايير البيئية، كما وتتخاذل عن القيام بالدور الذي يتناسب مع مسؤوليتها في هذا المجال، نظرا للتزاحم الحاصل ما بين الأهداف الاقتصادية والاستراتيجية والمعايير البيئية.
من هنا فإن الواقعية تقتضي العمل على التكيف مع هذه التقلبات البيئية وحماية مواردنا من الطاقة والمياه ما استطعنا، وعدم الركون إلى تمنيات واستعراضات إعلامية ومعاهدات سرعان ما تتخلى عنها القوى الكبرى إذا ما مست بعناصر قوتها.